فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو الفتح أراد مالحًا وحذف الألف كما حذفت من برد أي بارد.
وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح: هي لغة شاذة قليلة.
وقيل: أراد مالح فقصره بحذف الألف فالمالح جائز في صفة الماء لأن الماء يوجد في الضفيان بأن يكون مملوحًا من جهة غيره، ومالحًا لغيره وإن كان من صفته أن يقال: ماء ملح موصوف بالمصدر أي ماء ذو ملح، فالوصف بذلك مثل حلف ونضو من الصفات.
قال الزمخشري: فإن قلت: {حجرًا محجورًا} ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز، كان كل واحد من البحرين متعوذ من صاحبه ويقول له {حجرًا محجورًا} كما قال: {لا يبغيان} أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغي ثم كالتعوذ هاهنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة. انتهى.
والظاهر أن {حجرًا محجورًا} معطوف على {برزخًا} عطف المفعول على المفعول وكذا أعربه الحوفي، وعلى ما ذكره الزمخشري يكون ذلك على إضمار القول المجازي أي، ويقولان أي كل واحد منهما لصاحبه {حجرًا محجورًا}.
والظاهر عموم البشر وهم بنو آدم والبشر ينطلق على الواحد والجمع.
وقيل: المراد بالنسب آدم وبالصهر حواء.
وقيل: النسب البنون والصهر البنات و{من الماء} إما النطفة، وإما أنه أصل خلقة كل حي، والنسب والصهر يعمان كل قربى بين آدميين، فالنسب أن يجتمع مع آخر في أب وأم قرب ذلك أو بعد، والصهر هو نواشج المناكحة.
وقال عليّ بن أبي طالب النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع.
وعن طاوس: الرضاعة من الصهر.
وعن عليّ: الصهر ما يحل نكاحه والنسب ما لا يحل نكاحه.
وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع.
قال ابن سيرين: نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليّ لأنه جمعه معه نسب وصهر.
قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة.
{وكان ربك قديرًا} حيث خلق من النطفة الواحدة بشرًا نوعين ذكرًا وأنثى.
ولما ذكر دلائل قدرته وما امتن به على عباده من غرائب مصنوعاته ثبت بذلك أنه المستحق للعبادة لنفعه وضره بين فساد عقول المشركين حيث يعبدون الأصنام.
والظاهر أن {الكافر} اسم جنس فيعم.
وقيل: هو أبو جهل والآية نزلت فيه.
وقال عكرمة {الكافر} هنا إبليس والظهير والمظاهر كالمعين والمعاون قاله مجاهد والحسن وابن زيد، وفعيل بمعنى مفاعل كثير والمعنى أن {الكافر} يعاون الشيطان على ربه بالعداوة والشريك.
وقيل: معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هينًا مهينًا من قولهم: ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا يلتفت إليه، وهذا نحو قوله: {أولئك لا خلاق لهم} الآية قاله الطبري.
وقيل: {على ربه} أي معينًا على أولياء الله.
وقيل: معينًا للمشركين على أن لا يوحد الله. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين}.
أي خلاَّهما متجاورينِ مُتلاصقين بحيثُ لا يتمازجانِ، من مَرَجَ دابَّته إذا خلاَّها {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} قامعٌ للعطشِ لغايةِ عذوبتِه {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} بليغُ المُلوحةِ. وقرئ مَلْحٌ فلعلَّه تخفيفُ مالحٍ كبَرْدٍ في باردٍ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} حاجزًا غيرَ مرئيَ من قُدرتِه كما في قولِه تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} وتنافرًا مُفرِطًا كأنَّ كلًا منهما يتعوَّذُ من الآخرِ بتلك المقالِة وقيل: حَدًَّا محدُودًا وذلك كدجلةَ تدخلُ البحرَ وتشقُّه وتجري في خلالِه فراسخَ لا يتغيَّرُ طعمُها، وقيل: المرادُ بالبحرِ العذبِ النَّهرُ العظيمُ وبالمالحِ البحرُ الكبيرُ وبالبرزخ ما بينهما من الأرضِ فيكون أثرُ القُدرة في الفصلِ واختلافِ الصِّفةِ، مع أنَّ مُقتضى طبيعةِ كلِّ عُنصرٍ التَّضامُّ والتَّلاصقُ والتَّشابهُ في الكيفيَّةِ.
{وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَرًا} هو الماءُ الذي خمَّر به طينة آدمَ عليه السَّلامُ أو جعله جُزءًا من مادَّةِ البشر ليجتمع ويسلسَ ويستعدَّ لقبول الأشكال والهيئاتِ بسهولة أو هو النُّطفةُ {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} أي قسمه قسمينِ ذوَيْ نسبٍ أي ذكورًا يُنتسبُ إليهم وذوات صهر أي أناثًا يُصاهرُ بهنَّ كقولهِ تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى} {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} مبالغًا في القُدرة حيث قدرَ على أنْ يخلقَ من مادَّةٍ واحدةٍ بشرًا ذَا أعضاءٍ مختلفةٍ وطباعٍ مُتباعدةٍ وجعله قسمينِ مُتقابلينِ ورُبَّما يخلق من نُطفةٍ واحدةٍ تَوأمين ذَكرًا وأُثنى.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الذي شأنُه ما ذُكر {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} أي ما ليس من شأنِه النَّفعُ والضُّرُّ أصلًا وهو الأصنامُ أو كلُّ ما يُعبدُ من دُنه تعالى إذْ ما من مخلوقٍ يستقلُّ بالنَّفع والضُّرُّ {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ} الذي ذُكرتْ آثارُ ربوبَّيتهِ {ظَهِيرًا} يُظاهر الشَّيطانَ بالعداوةِ والشركِ. والمرادُ بالكافر الجنسُ أو أبُو جهلٍ وقيل: هيِّنًا مهينًا لا اعتدادَ به عندَه تعالى من قولِهم ظهرتَ به إذا نبدتَه خلفَ ظهرِك فيكون كقولِه تعالى: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين}.
أي أرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويقال في هذا أمرج أيضًا على ما قيل إلا أن مرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد.
وأصل المرج كما قال الراغب: الخلط، ويقال: مرج أمرهم أي اختلط، وسمي المرعى مرجًا لاختلاط النبات فيه، والمراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكير الملح من غير تخصيص ببحرين معينين، وهذا رجوع إلى ما تقدم من ذكر الأدلة، وقوله تعالى: {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} الخ أي شديد العذوبة ووزنه فعال من فرته وهو مقلوب من رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويقمعها، وقيل؛ هو البارد كما في مجمع البيان إما استئناف أو حال بتقدير القول أي يقال فيهما هذا عذب فرات {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} وقيل: هي حال من غير تقدير قول على معنى مرج البحرين مختلفين عذوبة شديدة وملوحة كذلك، واسم الإشارة غني غناء الضمير، والإجاج شديد الملوحة كما أشرنا إليه أطلق عليه لأن شربه يزيد أجيج العطش، وقال الراغب: هو شديد الملوحة والحرارة من أجيج النار انتهى، وقيل: هو المر وحكاه الطبرسي عن قتادة، وقيل الحار فهو يقابل الفرات عند من فسره بالبارد.
وقرأ طلحة بن مصرف وقتيبة عن الكسائي {مِلْحٌ} بفتح الميم وكسر اللام هنا وكذا في فاطر، قال أبو حاتم: وهذا منكر في القراءة، وقال أبو الفتح: أراد مالحًا فخفف بحذف الألف كما قيل برد في بارد في قوله:
أصبح قلبي صردا

لا يشتهي أن يردا إلا عرادا عردا وصلينا بردا وعكنا ملتبدا وقيل: مخفف مليح لأنه ورد بمعنى مالح، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح: هي لغة شاذة قليلة فليس مخففًا من شيء، نعم هو كملح في قراءة الجمهور بمعنى مالح، والأفصح أن يقال في وصف الماء: ماء ملح دون ماء مالح وإن كان صحيحًا كما نقل الأزهري ذلك عن الكسائي، وقد اعترف أيضا بصحته ثعلب، وقال الخفاجي: الصحيح أنه مسموع من العرب كما أثبته أهل اللغة وأنشدوا لإثباته شواهد كثيرة وعليه فمن خطأ الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه بقوله: ماء مالك فقد أخطأ جاهلًا بقدر هذا الإمام {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} أي حاجزًا وهو لفظ عربي، وقيل: أصله بزره فعرب، والمراد بهذا الحاجز كما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن ما يحول بينهما من الأرض كالأرض الحائلة بين دجلة ويقال لها بحر لعظمها ولشيوع إطلاق البحر على النهر العظيم صار حقيقة فيه أيضًا فلا إشكال في التثنية، وإن أبيت صيرورته حقيقة فاعتبار التغليب يرفع الإشكال وبين البحر الكبير، والمراد حيلولتها في مجارهيا وإلا فهي تنتهي إلى البحر وكذا سائر الأنهار العظام، ودلالة هذا الجعل على كمال قدرته عز وجل كونه على خلاف مقتضى الطبيعة فإن مقتضى طبيعة الماء أن يكون متضام الأجزاء مجتمعًا غامرًا للأرض محيطًا بها من جميع جهاتها إحاطة الهواء به ومقتضى طبيعة الأرض أن تكون متضامة الأجزاء أيضًا لا غور فيها ولا نجد مغمورة بالماء واقعة في جوفه كمركز الدائرة كما قرر ذل الفلاسفة وذكروا في سبب انكشاف ما انكشف من الأرض ووقوع الأغوار والانجاد فيها ما لا يخلو عن قيل وقال، و{بَيْنَهُمَا} ظرف الجعل، ويجوز أن يكون حالًا من {بَرْزَخًا}، والظاهر أن تنوين {بَرْزَخًا} للتعظيم أي وجعل بينهما برزخًا عظيمًا حيث إنه على كثرة مرور الدهور لا يتخلله ماء أحد البحرين حتى يصل إلى الآخر فيغير طعمه {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} أي وتنافرًا مفرطًا كأن كلًا منهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة، والمراد لزوم كل منهما لصفته من العذوبة والملوحة فلا ينقلب البحر العذب ملحًا في مكانه ولا البحر الملح عذبًا في مكانه وذلك من كمال ذرته تعالى وبالغ حكمته عز وجل فإن العذوبة والملوحة ليستا بسبب طبيعة الأرض ولا بسبب طبيعة الماء وإلا لكان الكل عذبًا أو الكل ملحًا، وذكر في حكمة جعل البحر الكبير ملحًا أن لا نتن بطول المكث وتقادم الدهور؛ قيل: وهو السر في جعل دمع العين ملحًا، وفيه حكم أخرى الله تعالى أعلم بها.
والظاهر إن {حِجْرًا} عطف على {بَرْزَخًا} أي وجعل بينهما هذه الكلمة، والمراد بذلك ما سمعت آنفًا وهو من أبلغ الكلام وأعذبه، وقيل: هو منصوب بقول مقدر أي ويقولان حجرًا محجورًا، وعن الحسن أن المراد من الحجر ما حجر بينهما من الأرض وتقدم تفسيره البرزخ بنحو ذلك، وكان الجمع بينهما حينئذ لزيادة المبالغة في أمر الحاجز وما قدمنا أولى وأبعد مغزى، وقيل: المراد بالبرزخ حاجز من قدرته عز وجل غير مرئي وبقوله سبحانه: {حِجْرًا مَّحْجُورًا} التميز التام وعدم الاختلاط، وأصله كلام يقوله المستعيد لما يخافه كما تقدم تفصيله، وحاصل معنى الآية أنه تعالى هو الذي جعل البحرين مختلطين في مرأى العين ومنفصلين في التحقيق بقدرته عز وجل أكمل انفصال بحيث لا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب ولا يتغير طعم كل منهما بالآخر أصلًا.
وحكى هذا عن الأكثرين وفيه أنه خلاف المحسوس فإن الأنهار العظيمة كدجلة وما ينضم إليها والنيل وغيهرما مما يشاهده الناس إذا اتصلت في البحر تغير طعم غير قليل منها في جهة المتصل وكذا يتغير طعم غير قليل من البحر في جهة المتصل أيضًا ويختلف التغير قلة وكثرة باختلاف الورود لاختلاف أسبابه من الهواء وغيره قوة وضعفًا كما أخبر به مبلغ التواتر ولم يخبر أحد أنه شاهد في الأرض بحرين أحدهما عذب والآخر ملح، وقد اتصل أحدهما بالآخر من غير تغير لطعم شيء منهما أصلًا، ولا مساغ عند من له أدنى ذوق لجعل الآية في بحرين في الأرض كذلك لكنهما لم يشاهدهما أحد كما لا يخفى، ولا أرى وجهًا لتفسير الآية بما ذكر والتزام هذا ونحوه من التكلفات الباردة مع ظهور الوجه الذي لا كدورة فيه عند المنصف إلا تسبب طعن الكفرة في القرآن العظيم وسوء الظن بالمسلمين؛ وقيل: المراد بالبرزخ الواسطة أي وجعل بين البحر العذب الشديد العذوبة والبحر الملح الشديد الملوحة ماء متوسطًا ليس بالشديد العذوبة ولا بالشديد الملوحة وهو قطعة من العذب الفرات عند موضع التلاقي مازجها شيء من الملح الأجاج فكسر سورة عذوبتها وقطعة من الملح الأجاج عند موضع التلاقي أيضًا مازجها شيء من العذب الفرات فكسر سورة ملوحتها ويكون التنافر البليغ بينهما المفهوم من قوله سبحانه: {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} فيما عدا ذلك وهو ما لم يتأثر بصاحبه منهما، بل بقي على صفته من العذوبة الشديدة والملوحة الشديدة وهو كما ترى، وحكى في البحر أن المبارد بالبحرين بحران معينان هما بحر الروم وبحر فارس.
وذكره في الدر المنثور عن الحسن برواية ابن أبي حاتم وهو من العجب العجاب لأن كلا هذين البحرين ملح أجاج فكيف يصح إرادتهما هنا مع قوله تعالى: {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} نعم قد يصح فيما سيأتي إن شاء الله تعالى من آية سورة الرحمن أعني قوله سبحانه: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19، 20] لعدم ذكر ما يمنعه هناك، وما روى عن الحسن إن صح فلعله في ذلك الآية، ووهم السيوطي في روايته في الكلام على هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن البحرين هما بحر السماء وبحر الأرض وذكر مثله في البحر عن ابن عباس وأنهما يلتقيان كل عام، وهذا شيء أنا لا أقول به في الآية ولا أعتقد صحة روايته عمن سمعت وإن كان مناسبة الآية عليه لما تقدم من قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُورًا} [الفرقان: 48] على القول بأن المطر من بحر في السماء أتم ودلالتها على كمال قدرته تعالى أظهر؛ وأما أنت فبالخيار والله تعالى ولي التوفيق.